ضيـــاع
كانت السماء مغيمة، ممتلئة بالسحب الداكنة والشمس قد أوشكت على الغروب، كان خائفا ولا يعرف سبب ذلك الخوف القاتل. أحس برغبة في البكاء، أحس بأشياء كانت تتضارب في أعماقه منذ زمن بعيد لا يعرفه، أدرك أنه غريب عن نفسه، أمعن النظر إلى تلك الجبال العالية البعيدة. حينها شعر باضطرام الثورة في قلبه، لكنه بقي صامتا وعجز عن التحرك من مكانه.
جلس إلى تلك الشجرة التي كانت دائما قريبة منه. شجرة فقدت كل الأشجار التي كانت تحيط بها. رفع نظره الى السماء فوجد أن السحب قد زادت ظلمة... وحدة وظلام وبعد وغربة.
أراد أن يسأل تلك الشجرة عن وحدتها، لكنه لم يستطع، أراد أن يسألها عن ماضيها، عن أصدقائها الذين رحلوا وتركوها وحيدة، أصدقائها الذين لا تجمعها بهم سوى الذكريات، لكنه وجد نفسه عاجزا عن ذلك.
أراد أن يقول لها أشياء كثيرة، لكنه اكتفى بالنظر إليها، لعلها قادرة على فهم لغة الصمت... رمقها بنظرات كانت توحي بالحيرة والضياع الى جانبها. رجعت به ذاكرته الى أيام أراد أن ينساها، وأن يخرجها من تاريخه.
تحت ظل أغصانها، وقد غربت الشمس وأقبل الليل -وهو لا يعلم- أحس أن هناك من يمسك يده، وقد انحنى عليه ليقبله، نظر إلى جانبه، فلم يجد إلا تلك الشجرة التي استطاعت أن تحرك في داخله ثورة من الأسئلة، وأن تبعث فيه روح الحياة من جديد. اتكأ إلى جذعها، وامتلأت عيناه بالدموع. لكن عتمة النوم كانت أسبق من ماء الدموع. فنام بين أغصانها نوما هادئا، دون أن يعبث بورقة واحدة من أوراقها ودون أن يتناول ثمرة من ثمارها.
هكذا احتضنته تلك الشجرة الطيبة، بكل حنانها، بكل ماضيها، بكل تاريخها وآلامها وأحزانها... لكنه كان حائرا، تائها متوترا، وذلك ما جعله يفقد القدرة على الكلام، أو بالأحرى لم يعرف ماذا يقول بالتحديد، لأن ما يريد قوله مبعثر ومشتت، مثل أفكاره المتمرد على سكون الذاكرة.
لقد تعود على الجلوس قرب تلك الجميلة الرائعة، كان دائما يفكر ويريد السؤال، وكانت تعرف ذلك، لأنها هي وحدها من تمكنت أن تفهم لغة الصمت، هي وحدها من بين الجميع، أرادت أن يكون الى جانبها في كل الأوقات، ووحدها من استطاعت أن تكشف عن كل ما يحمله من آلام، إذ قالت له ذات يوم : كلما نظرت في عيونك رأيت همومك وأحزانك. أقرأ على صفحات وجهك آلاما وكلاما وحيرة. أتمنى أن أقول لك وبكل صراحة وود : لو تتحدث بما يدور في أعماقك من أطوار وحرائق، لماذا لا تقول ما تريد قوله، حتى تتمكن من تجاوز الخجل والانكماش الذي يحبسك في كابوسالصمت.
لو تتكلم وتخبرني بأحلامك، فقد نصبح بعد ذلك أصدقاء أيها الصغير الهادىء. قالت لماذا هذا الصمت، ولماذا كل هذا الحزن. فقال لها : عزيزتي أنا لم أكن أعلم أن للحياة وللأيام آلاف الوجوه، وأن النفوس على كل لون وشكل . في طفولتي لم تعلمني أمي سوى أن أرضى بأبسط الأشياء... كل تاريخي رحلة مع الوحدة، رحلة من الصمت الى الصمت، ومن العدم الى العدم، مغامرة نحو المجهول ملؤها الكآبة والحزن والألم. إعلان للتمرد على الحياة، وعلى القيود، وعلى الضعف. احتدمت في صراع لا ينتهي الى غاية، صراع من أجل البقاء كما أريد، وليس كما يريد الأخرون.
أخطأت مرة واحدة فعاقبوني آلاف المرات، لذلك رفضت أهلي عندما رفضوني . الجميع يرمقني بنظرات الحقد والكراهية، حتى أمي - التي لو بقيت كل حياتي أقبل الأرض عند قدمها لن أعوض لحظة واحدة من لحظات عذابها من أجلي- رفضتني وأبت أن تساعدني. ذلك كان دافعا لأن أختار التمرد، لذلك ضاع غرض الإصلاح والعودة الى حياة الهدوء في كؤوس الخمرة، وفي مدن الأحزان وآلام في أماكن ليست لها أسماء، ومع أناس أغبياء عشت فترة قصيرة من فترات الصبا، لكنها كانت دهرا لأنني بين هؤلاء الأشقياء تعلمت الكثير، ورأيت ما لا يمكن أن يراه صبي في سني... هناك يتشابه الفقير والغني، وهناك نكون جميعا أغبياء وأذكياء في الوقت نفسه، وهناك نحفل بالحقير وبالعظيم...
هذا بعض ما يحمله ذلك الفتى في صمته وحزنه. فالشوق والحنين إلى حنان الأم وابتسامة الأب واللعب مع هؤلاء الأبرياء، كلها ماتت فلم يعد يسمع نداء القلب والعواطف، ولم يستطع العودة إلى حياة الأطفال الصغار.
بين طياته يحمل آلامه وعذابه، وفي صمته تتغلغل براكين من الحديث والآهات، فمن اختار مدن الأحزان صعب أن يعود إلى تفاهة هؤلاء، فلا قيمة للمال وللحياة، ولا معنى للحب وللمجد والتاريخ. فلتمت أيها القلب وأيها الحنين، فهو اليوم معه ما يكفيه ليسافر الى حيث يشاء وليفعل ما يريد. معه حزنه وكآبته وكؤوسه الممزوجة بالآلام والدموع.
هكذا كان من بين الذين لا يملكون في صراعهم مع الواقع أن ينتصروا ولا يطيقون أن ينكسروا، فهم في حياتهم إلى الأسى والمرارة أقرب: يرفضون الحياة مع من يربطهم بالماضي بخيط من الدخان. .
كل الذين معه يعيشون كالأموات فهم لا يعرفون الحزن، ولم يدخلوا مدن المتاهات... هؤلاء لا يستهويهم سوى العبث والابتسامات. بأي لغة ستتحدث عن عذابك أيها الفتى، وأي المعاني تحملها بين طياتك. نعم كان ظنك أن النفوس كبار، لكن وجدت النفوس شيئا حقيرا.
التيه والضياع والحزن والصمت، هو العالم الذي كبرت فيه أحلامه وآماله، فبين دموع الألم ومتاهات النفس عرف أجمل لحظات حياة طفولته.
لماذا نعشق الضحك والفرح؟ لماذا نمقت الدموع والحزن؟ ولماذا نخشى الآلام؟ لماذا نرفض الرجوع الى كهوف الذات حيث نكتشف هناك ما كان خفيا عنا؟
لكن الذي لم يعرف الحزن يوما، لن يعرف السعادة أبدا. لذلك كان من الصعب على الذين مثله، أن تكون له شجرة كما يريدها، شجرة تكون الى جانبه في كل الأوقات، وتكون قادرة على فهم كلمة واحدة من لغته ، شجرة يستمد لحظات الصدق من ورودها وأزهارها، تضمه بكل حنان إلى جذعها، حين يجرفه التيار في يوم طقسه بارد... لكنه طوال تلك الرحلة السوداء، لم يجد ما يبحث عنه. فعانق وحدته وأبحر في أعماق نفسه، وبحث عن سر من أسراره فلم يجد في ماضيه الا الموت والخراب، لكنه كان دائما يحلم بأن يأتي يوم يجد فيه صدفة ما يبحث عنه... الى أن وجدها.
وبعد أن استمعت إلى كل حكاياه قالت له: صدفة كنت أراك تجلس الى ظلك القصير، قدماك تلهوان بالتربة السمراء الهادئة، تمارس إبعاد الحصى عن بعضه ثم تقرب ما أبعدته، ترسم بأطراف أصابعك خطوطا ودوائر، وأحيانا يقع لك أن ترى على التراب أشياء وأسماء ترسم ذاتها دون أن تعي، فتفاجئك عيناك بحروف غريبة عن خط يدك, فمن يمكن له أن يتدخل فيما يرسم وما يتصور؟
لقد كنت مغلقا كالبحر، وبعيدا كنجمة هاربة خائفة، وعلى الآخرين ألا يحاولوا في أي وقت الدخول الى سماء هاته النجمة أو الإيقاع بموجة من موجاتك.
هذا العالم الصغير الأسمر الضيق الذي بدأ يحرك فيها فجأة أحداثا قديمة... تحركت في لحظة قصيرة من الصمت أكوام من الخرائب، وتبعثرت بقايا الأسماء التي مرت في حياتها... لم تكن تعرف مالذي يختفي خلف ظله القصير، المعتم، الهادىء، ولم تكن تقدر ما يمكن له أن يقول، لكنها كانت تعلم بأنه يحمل آلاما.
أنظر هناك ترى الطيور تهاجر نحو الجنوب بحثا عن الدفء، هنا الأرض تنكمش تحت خطواتك، والناس يبحثون عمن يمنحهم يدا لممارسة الحنين الى الجسد البشري....
الشجرة التي تتكىء على جذعها، أثقلتها حبات الثلج، الحبات تثقل وتنتفخ وتمتلىء، فتسقط على النبت وعلى الورق العريض للشجرة التي تتكىء الى سمرتها، الشجرة تبيض وترتدي الماء، تذوب، تتكىء... أما أنت فلا تزال مشدودا إلى هاته الشجرة التي لا تتكلم. هل تتصور أيها الفتى أن الأشجار تقول أحبك... أيها الفتى الوحيد، لا تقول الأشجار شيئا، وكذلك الأمطار والأطيار والجهات والسماوات لا تقول أحبك. مرفقاك يغوصان في الثلج الذي أذابته سمرتك، والشجرة تذوب من سمرتك، وشيئا فشيئا كنت أراك تقف وحيدا تميل نحو الخلف، تائها بعينيك كما تعودتك، والعصافير التي كانت متجهة نحو الجنوب، توقفت فجأة عن تحريك أجنحتها ، ثم انطلقت هابطة إلى كتفيك فخفت عليك ، مما تحمل تلك العصافير من أخبار لا حد لها ومن قصص قديمة.
هكذا حدثته عن نفسه وعنها، فقد كانت تود أن تعطي حنانها الكثير، عجزت أن تبادر بضمه. كانت تريد أن تشرب من كل كؤوسه المضرجة بالألم والدموع. لقد عرفت كيف تقوده حافيا في دربها الشائك ، وقد عرف أيضا كيف يحرك فيها بقايا الأسماء التي مرت في حياتها.
أرادت بكل الطرق أن تفجر صمته الأزلي، لكنها اكتشفت أنه لا يتكلم بل يكره الكلام ، يخشى اللغة ويخاف التورط في رموزها، يعشق الصمت والتأمل، ويهوى السير نحو المخالف والمغاير والجديد، يستمد لحظات الصدق من مدن أحزانه وآلامه، ويعرف جيدا أن الذكرى لا تموت، بل إنها تبقى دائما شكلا من أشكال اللقاء.
لكن ما تجهله تلك الشجرة، هو أن هذا الفتى يحمل كل ذلك الحزن، وأن حبها يمتزج مع أزمات الماضي، ليكون في أعماقه أمواجا ثائرة متمردة... لم تكن تعرف كم هو صعب أن يهدئ من ثورة تلك الأمواج، وأن يجعلها نارا خامدة تحرقه وحده، لأنه لا يريدها أن تحترق مثله، لذلك لن يقول لها أحبك لأنه إذا قالها سوف يفتقدها، وسوف يفتقد تلك الشجرة الى الأبد.
وظل مشدودا إليها كأوراقها الصفراء أيام عسر الخريف، ينشد برد اليقين، فيقتحمه صخب السؤال المتواتر، والرحلة التي لا تهدأ، فيحبها كما لا يحبها أحد ويقبل عليها كما أعرضت عنه.
مع تحيات جزائرية وافتخر
وكل اعضاء شباب الزقم