بسم الله الرحمن الرحيم
معنى لا إله إلا الله
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأن محمدا عبده ورسوله , وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم , وروح منه , والجنة حق , والنار حق , أدخله الله الجنة على ماكان من العمل ) أخرجاه .
عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبو الوليد , أحد النقباء , بدري مشهور . مات بالرملة سنة أربع وثلاثين , وله اثنتان وسبعون . وقيل عاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنه .
قوله :
( من شهد أن لا إله إلا الله )
أي : من تكلم بها عارفا لمعناها , عاملا بمقتضاها , باطنا وظاهرا , فلا بد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولهما , كما قال الله تعالى
فاعلم أنه لا إله إلا الله ) ـ محمد ـ 19 ـ .
وقوله
إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ) ـ الزخرف ـ 86 ـ . أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه : من البراءة من الشرك , وإخلاص القول والعمل : قول القلب واللسان , وعمل القلب والجوارح , فغير نافع بالإجماع . .
قال القرطبي في المفهم على صحيح مسلم : ( باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين , بل لا بد من استيقان القلب ) : " هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة , القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان , وأحاديث هذا الباب تدل على فساده , بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها , ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق , والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح , وهو باطل قطعا " ا هـ .
وفي هذا الحديث ما يدل على هذا , وهو قوله : ( من شهد ) , فإن الشهادة لا تصح إلا إذا كانت عن علم ويقين وإخلاص وصدق .
قال النووي :" هذا حديث عظيم جليل الموقع , وهو أجمع ـ أو من أجمع ـ الأحاديث المشتملة على العقائد ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم جمع فيه ما يخرج من ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدها , فاقتصر صلى الله عليه وسلم في هذه الأحرف على ما يباين جميعهم " . ا هـ .
ومعنى" لا إله إلا الله " لا معبود بحق إلا الله , وهو في غير موضع من القرآن . ويأتيك في قول البقاعي صريحا .
قوله : ( وحده ) تأكيد الإثبات , " لا شريك له " تأكيد للنفي . قاله الحافظ . كما قال تعالى
وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمان الرحيم ) ـ البقرة ـ 163 ـ . وقال ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) ـ الأنبياء ـ 25 ـ . وقال : ( وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) ـ الأعراف ـ 65 ـ . فأجابوه ردا عليه بقولهم : ( أجئتنا لنعبد الله وحده , ونذر ما كان يعبد آباؤنا ) ؟ ـ الأعراف ـ 70 ـ . وقال تعالى : ( ذلك بأن الله هو الحق , وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير ) ـ الحج ـ 62 ـ .
فتضمن نفي الإلهية عما سوى الله . وهي العبادة , وإثباتها لله وحده لا شريك له , والقرآن من أوله إلى آخره يبين هذا ويقرره ويرشد إليه .
فالعبادة بجميع أنواعها إنما تصدر عن تأله القلب بالحب والخضوع والتذلل . رغبا ورهبا , وهذا كله لا يستحقه إلا الله تعالى , كما تقدم في أدلة هذا الباب وما قبله . فمن صرف من ذلك شيئا لغير الله فقد جعله لله ندا , فلا ينفعه مع ذلك قول ولا عمل .
ذكر كلام العلماء في معنى " لا إله إلا الله " :
قد تقدم كلام ابن عباس . وقال الوزير أبو المظفر في الإفصاح : " قوله : شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي أن يكون الشاهد عالما بأنه لا إله إلا الله , كما قال تعالى ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) ـ محمد ـ 19 ـ قال : وإسم " الله " مرتفع بعد " إلا " من حيث أنه الواجب له الإلهية , فلا يستحقها غيره سبحانه " . قال : " وجملة الفائدة في ذلك : أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله , فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله " .
وقال ابن القيم في البدائع ردا لقول من قال : إن المستثنى مخرج من المستثنى منه . قال ابن القيم :" بل هو مخرج من المستثنى منه وحكمه , فلا يكون داخلا في المستثنى ؛ إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله :" لا إله إلا الله " لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى . وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفي الإلهية عما سوى الله , وإثباتها له بوصف الإختصاص . فدلالتها على إثبات إلهية أعظم من دلا لة قولنا : " الله إله " ولا يستريب أحد في هذا البتة " . انتهى بمعناه .
وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره لا إله إلا الله " أي لا معبود إلا هو "
وقال الزمخشري : " الإله : من أسماء الأجناس , كالرجل والفرس , يقع على كل معبود بحق أو باطل , ثم غلب على المعبود بحق "
وقال شيخ الإسلام :" الإله : هو المعبود المطاع ؛ فإن الإله هو المألوه . والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد , وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم ان يكون هو المحبوب غاية الحب , المخضوع له غاية الخضوع , قال : فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها , وتخضع له وتذل له , وتخافه وترجوه . وتنيب إليه في شدائدها , وتدعوه في مهماتها , وتتوكل عليه في مصالحها , وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن الى حبه , وليس ذلك إلا لله وحده , ولهذا كانت " لا إله إلا الله " أصدق الكلام , وكان أهلها أهل الله وحزبه , والمنكرون لها أعداؤه وأهل غضبه ونقمته , فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق , وإذا لم يصححها العبد , فالفساد لازم في علومه وأعماله .
وقال ابن القيم : " الإله : هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا وإنابة , وإكراما وتعظيما , وذلا وخضوعا ,وخوفا ورجاءا وتوكلا " .
وقال ابن رجب :" الإله " هو الذي يطاع فلا يعصى , هيبة له وإجلالا , ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا عليه , وسؤالا منه ودعاء له , ولا يصلح هذا كله إلا لله عز وجل . فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية , كان ذلك قدحا في اخلاصه في قول :" لا إله إلا الله " [ ونقصا في توحيده ] , وكان فيه من عبودية المخلوق , بحسب ما فيه من ذلك "
وقال البقاعي : " لا إله إلا الله " أي انتفاء عظيما أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم , فان هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة , وإنما يكون علما إذا كان نافعا , وانما يكون نافعاإذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه , وإلا فهو جهل صرف "
وقال الطيبي : " الإله فعال بمعنى مفعول , كالكتاب بمعنى المكتوب , من إله إلهة : أي عبد عبادة " .
قال الشارح :" وهذا كثير في كلام العلماء , وإجماع منهم " .
فدلت " لا إله إلا الله " على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى كائنا ما كان , وإثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه . وهذا هو التوحيد الذي دعت اليه الرسل ودل عليه القرآن من أوله الى آخره , كما قال تعالى عن الجن ( قل أوحي الي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا , يهدي الى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ) ـ الجن ـ 1 ـ 2 ـ فلا إله إلا الله , لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفيا وإثباتا , واعتقد ذلك وقبله وعمل به . وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل , فقد تقدم كلام العلماء : أن هذا جهل صرف , فهي حجة عليه بلا ريب .
فقوله في الحديث ( وحده لا شريك له ) تأكيد وبيان لمضمون معناها . وقد أوضح الله ذلك وبينه في قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين , فما أجهل عباد القبور بحالهم ! وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافي لكلمة الإخلاص " لا إله إلا الله " , فإن مشركي العرب ونحوهم جحدوا " لا إله إلا الله " لفظا ومعنى . وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظا وجحدوها معنى , فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بأنواع العبادة , كالحب والتعظيم , والخوف والرجاء , والتوكل والدعاء , وغير ذلك من أنواع العبادة . بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب , فإن أحدهم إذا وقع في شدة أخلص الدعاء لغير الله تعالى , ويعتقدون أنه أسرع فرجا لهم من الله , بخلاف حال المشركين الأولين , فإنهم كانوا يشركون في الرخاء , وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده , كما قال تعالى : ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم الى البر إذا هم يشركون ) الآية ـ العنكبوت ـ 65 ـ . فبهذا يتبين أن مشركي أهل هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم .
وقوله : ( وأن محمدا عبده ورسوله ) أي : وشهد بذلك , وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل , ومعنى " العبد " هنا : المملوك العابد , أي : إنه مملوك لله تعالى . والعبودية الخاصة وصفه , كما قال تعالى : ( أليس الله بكاف عبده ) ـ الزمر 36 ـ فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة , فالنبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين . وأما الربوبية والإلهية , فهما حق الله تعالى , لا يشركه في شيء منهما ملك مقرب , ولا نبي مرسل .
وقوله : ( عبده ورسوله ) أتى بهاتين الصفتين وجمعهما دفعا للإفراط والتفريط ؛ فإن كثيرا ممن يدعي أنه من أمته أفرط بالغلو قولا وفعلا , وفرط بترك متابعته , واعتمد على الآراء المخالفة لما جاء به , وتعسف في تأويل أخباره وأحكامه , بصرفها عن مدلولها , والصدوف عن الإنقياد لها مع إطراحها , فإن شهادة أن محمدا رسول الله تقتضي الإيمان به , وتصديقه فيما أخبر , وطاعته فيما أمر , والإنتهاء عما عنه نهى وزجر , وأن يعظم أمره ونهيه , ولا يقدم عليه قول أحد كائنا من كان . والواقع اليوم وقبله ـ ممن ينتسب إلى العلم من القضاة والمفتين ـ خلاف ذلك , والله المستعان .
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ
المصدر : فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ـ ص ـ 49 ـ
للشيخ عبد الرحمان بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب النجدي الحنبلي رحمه الله .