مباشر ــ فهد السالم ــ
"نساء المؤمنين ومعركة الاختلاط" جاءت كما توقع موقع قناة "اقرأ"، حلقة ساخنة من البرنامج الفكري الحواري المباشر "البينة"، وقد قرر الدكتور عبدالله هضبان الحارثي معد ومقدم هذا البرنامج بعد الاتفاق مع ضيوفه على ترحيل ما بقي من محاور وإشكاليات في هذه القضية إلى حلقة الأسبوع القادم.
وتلخيصا لما جاء في الحلقة، نبدأ بما اتفق عليه ضيوفها فقد أجمعوا على إباحة الشرع الحنيف لنوع من الاختلاط العرضي البريء بين الرجال والنساء والذي تفرضه الضرورات كبعض العبادات والشعائر كما يحدث في الطواف والسعي ورمي الجمار وشهود الجُمع والجماعات، كما تفرضه ضرورات الحياة والمعاش، فقد أباحت ملتنا السمحاء للمرأة أن تغشى الأسواق مرتدية حجابها الشرعي غير متبرجة بزينة لتبيع وتشتري بل لتشتغل بالتجارة، وهذا يقتضي حدوث أنواع من الاختلاط بين الرجال والنساء لا يترتب عليه مفاسد، وآثاره مأمونة.
أما خلاف ضيوف البرنامج فقد احتدم حول نوع من الاختلاط المقصود الذي يتم فيه اجتماع الرجال والنساء في مكان مقصود وبدون حائل كما يحدث في بيئات التعلم والعمل، فالدكتور أحمد بن قاسم الغامدي، رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة مكة المكرمة، يرى بأن هذا النوع مباح أيضا ويتحدى أن يجد المعارضون نصاً شرعياً واحداً يحرّمه. وفي رده على سؤال الدكتور الحارثي: "لماذا الآن بالذات تطرح هذه القضية"، أجاب بأن هذه القضية عظمت الحاجة إليها في المجتمع السعودي والآن تحديداً لأن المملكة خطت خطوات قوية في التطور والمدنية والعمران، ومشاركة المرأة في السابق لم تكن مطروحة ولم تكن ضرورية أما الآن فإن الحاجة ملّحة في مشاركة المرأة السعودية كطبيبة وأكاديمية وهذا يحتاج إلى هذا النوع من الاختلاط الذي لا يتعارض مع سلوكيات مجتمع الصحابة وإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم له دون نكير، أما المجتمعات الإسلامية الأخرى فإن مسألة الاختلاط والجدال حولها غير مطروح لأن ظروفها الموضوعية تختلف عن الوضع في السعودية.
ينطلق الدكتور أحمد بن عبد العزيز الحمدان مدير مركز الدعوة والإرشاد بمحافظة جدة، من شهادة الواقع في الرد على الغامدي ليقول بأن زعمه بأن قضية الاختلاط ليست مجال بحث في مجتمعات غير المجتمع السعودي غير صحيح البتة، فبين يدي الحمدان عشرات من البحوث والدراسات لعلماء معاصرين من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق يقولون فيها بتحريم الاختلاط ومقاومة محاولة فرضه في بلدانهم. ويتحدى الحمدان الغامدي أن يأتيه بكلام أي عالم من أي مذهب من مذاهب المسلمين ذهب لجواز الاختلاط لنعرف أن تحريمه لم يكن يوماً محلا للخلاف بين علماء الأمة. وبدوره الدكتور محمد بن يحيى النجيمي عضو المجمع الفقهي ورئيس قسم الدراسات بكلية الملك فهد الأمنية، يخطىء الدكتور الغامدي في زعمه بأن جدل الاختلاط يدور في السعودية فقط مؤكداً أن هذا الخلاف يدور في دول خليجية مجاورة كالكويت والبحرين ففي جامعة الكويت تمكن مجلس الأمة من اتخاذ قرار بفصل الجنسين في الجامعة.
وبخصوص تحريم الاختلاط فإن المجمع الفقهي المنعقد في ماليزيا للعام 2007 والذي حضره الدكتور الدجيلي بصفته عضوا فيه قد نصّ بشكل صريح على حرمة الاختلاط. اعتماداً على كلام 120 فقيه من فقهاء الأمة ينتمون لجميع المذاهب الإسلامية المعتبرة يحرّمونه، بل يشنعون على كل من شذّ عن هذا الإجماع.
أصرّ الدكتور أحمد بن قاسم الغامدي على مطالبة مخالفيه بدليل من كتاب أو سنة لما ذهبوا إليه من تحريم. وهنا انبرى الدكتور محمد بن يحيى النجيمي في سوق دليل من السنة النبوية القولية والفعلية تثبت حرمة ذلك النوع من الاختلاط الذي ذهب لإباحته الغامدي، فعن أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال للنساء : " استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق،" فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار" (رواه أبو داود ، والبيهقي في شعب الإيمان)، الدكتور الغامدي اعترض على إسناد الحديث الذي فيه ثلاثة مجاهيل مما يجعله ضعيفا لا يمكن اعتباره شرعاً، وهنا ردّ عليه الدكتور أحمد بن عبدالعزيز الحمدان بأن جهابذة علم الحديث في عصرنا وهما الشيخ ناصر الدين الألباني والعلامة شعيب الأرناؤوط رحمهما الله قد حسنّا الحديث ووجدا طرقا يتقوى سنده بها، مما يجعل رتبته حسنة وبالتالي فهو شرع.
ومن هذا الحديث ينتقل الدكتوران الحمدان والنجيمي إلى زاوية أخرى، وهي الخطأ المنهجي الذي سلكه الغامدي والكامن في إصراره وتحديه أن يخرج خصومه آية أو نصا تتضمن كلمة الاختلاط، وذلك كمن يطالب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يذكر تحريم "الويسكي" بلفظه، ذلك أن قضية الاختلاط لم ترد النصوص بها حرفياً لكن القواعد الشرعية الكلية العامة تؤدي لتحريم الاختلاط وذلك لنهي الشارع الحكيم عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فيأتي تحريم الاختلاط سداً لباب الذرائع والمقدمات المفضية لهذه الفواحش. وكثير من المحرمات في شريعتنا لا يلزم لتحريمها أن تكون قد ذكرت بلفظها المحدد في النصوص.
وفي مداخلة هاتفية من الدكتور محمد بن حجر الظافري، قاضي المحكمة الجزئية بمكة المكرمة حمل على الغامدي اقتحامه مجالاً ليس من اختصاصه فهو متخصص في المحاسبة، وإن كان قد جالس العلماء وأخذ عنهم فإن ذلك ليس كافياً أن يخوض في أمور بعيدة عن تخصصه، وأن يتجرأ على إجماع علماء المسلمين ويرد حديث حسّنه جهابذة في علم الحديث. كما أنه انتقد دوافع الغامدي في طرح القضية معتمدا على التطور المدني أو ظروف المجتمع السعودي فإن الدليل الشرعي لا يُستقى من ظروف تمر بها بلد ما.
ومن مفاجآت الحلقة اتصال صاحب السمو الملكي خالد بن طلال بن عبدالعزيز الذي أنكر بصفته حفيدا لمحمد بن سعود الذي جاهد هو والشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمهما الله - جنبا إلى جنب لتجديد الإسلام في هذا البلد المبارك، ليأتي رجل كالغامدي ليقول أمرا لم نتعلمه في الشريعة ولم يقله أحد من علمائنا، بل إن النظام الأساسي الذي تقوم عليه المملكة منذ بنائها، نظامٌ يحصر الفتوى في العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.
نقل الدكتور عبدالله هضبان الحارثي الحوار إلى محور آخر وهو ثلاثة أحاديث نبوية تعتبر أساساً يعتمد عليه الدكتور الغامدي في طرحه ومن خلالها يريد أن يثبت أن الاختلاط أمر مباح عاشه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مجتمع المدينة دون غضاضة ومن ذلك إحدى الروايات لحديث صحيح بأن رسول الله كان يدخل على أم حرام وكانت متزوجة من عبادة بن الصامت فيأكل النبي عندها ويقيل وتفلى رأسه، قال أنس بن مالك: "نام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك، قالت أم حرام: فقلت : ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عرضوا علي، غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة"
ولدى اعتراض الحمدان والنجيمي بأن أم حرام أخت أم سليم وأم سليم كانتا خالتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم محرمتين عليه إما من الرضاع، وإما من النسب وبهذا يسقط الاستدلال بهذا الدليل، انتهى وقت البرنامج وتم الاتفاق مع الضيوف على استكمال الحلقة في الأسبوع القادم. ليكون المشاهدون على "بينة" من أمرهم.
لمن فاتته هذه الحلقة المثيرة من برنامج "البينة" فإنه يعاد بثها يوم الجمعة 13:00 (مكة) - 10:00 (GMT)